كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يَسْتَكْبِرُ بَعْضُ مُقَلِّدَةِ الْإِفْرِنْجِ فِي آدَابِهِمْ مِنَّا مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ الْمَرْأَةِ النَّاشِزِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ تَنْشُزَ وَتَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ، فَتَجْعَلَهُ وَهُوَ رَئِيسُ الْبَيْتِ مَرْءُوسًا بَلْ مُحْتَقَرًا، وَتُصِرُّ عَلَى نُشُوزِهَا حَتَّى لَا تَلِينَ لِوَعْظِهِ وَنُصْحِهِ، وَلَا تُبَالِيَ بِإِعْرَاضِهِ وَهَجْرِهِ، وَلَا أَدْرِي بِمَ يُعَالِجُونَ هَؤُلَاءِ النَّوَاشِزَ؟ وَبِمَ يُشِيرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ أَوْ يُعَامِلُوهُنَّ بِهِ؟ لَعَلَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً نَحِيفَةً، مُهَذَّبَةً أَدِيبَةً، يَبْغِي عَلَيْهَا رَجُلٌ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَيُطْعِمُ سَوْطَهُ مِنْ لَحْمِهَا الْغَرِيضِ، وَيَسْقِيهِ مِنْ دَمِهَا الْعَبِيطِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الضَّرْبِ، وَإِنْ تَجَرَّمَ وَتَجَنَّى عَلَيْهَا وَلَا ذَنْبَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ غِلَاظِ الْأَكْبَادِ مُتَحَجِّرِي الطِّبَاعِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ بِمِثْلِ هَذَا الظُّلْمِ أَوْ يَرْضَى بِهِ، إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ الَّذِي يَظْلِمُ الْمَرْأَةَ بِمَحْضِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصِيَّةِ أَمْثَالِهِمْ بِالنِّسَاءِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَأْتِي فِي حَقِّهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّحْكِيمِ، وَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ الْفَوَارِكَ الْمَنَاشِيصَ الْمُفَسِّلَاتِ اللَّوَاتِي يَمْقُتْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَيَكْفُرْنَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِنَّ، وَيَنْشُزْنَ عَلَيْهِمْ صَلَفًا وَعِنَادًا، وَيُكَلِّفْنَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ يَقَعُ فِي الْأَرْضِ إِذَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ التَّقِيِّ الْفَاضِلِ أَنْ يُخَفِّضَ مِنْ صَلَفِ إِحْدَاهِنَّ، وَيُدَهْوِرَهَا مِنْ نَشَزِ غُرُورِهَا بِسِوَاكٍ يَضْرِبُ بِهِ يَدَهَا، أَوْ كَفٍّ يَهْوِي بِهَا عَلَى رَقَبَتِهَا؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمُ الْعَالِمَاتِ الْمُهَذَّبَاتِ وَالْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ الْمُمِيلَاتِ، فَعَلَ هَذَا حُكَمَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَهُوَ ضَرُورَةٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْغَالُونَ فِي تَكْرِيمِ أُولَئِكَ النِّسَاءِ الْمُتَعَلِّمَاتِ، فَكَيْفَ تَسْتَنْكِرُ إِبَاحَتَهُ لِلضَّرُورَةِ فِي دِينٍ عَامٍّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ؟!.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لابد لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ- إِذَا كَانَ لابد لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.
هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَدْ خَصُّوا النُّشُوزَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي يُبِيحُ الضَّرْبَ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِإِزَالَتِهِ بِخِصَالٍ قَلِيلَةٍ، كَعِصْيَانِ الرَّجُلِ فِي الْفِرَاشِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ تَرْكَهَا الزِّينَةَ وَهُوَ يَطْلُبُهَا نُشُوزًا، وَقَالُوا: لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَيْضًا عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ كَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّشُوزَ أَعَمُّ فَيَشْمَلُ كُلَّ عِصْيَانٍ سَبَبُهُ التَّرَفُّعُ وَالْإِبَاءُ، وَيُفِيدُ هَذَا قَوْلُهُ: {فَإِنْ أَطْعَنْكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ: إِنْ أَطْعَنْكُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ التَّأْدِيبِيَّةِ فَلَا تَبْغُوا بِتَجَاوُزِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ مِنَ الْوَعْظِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَهْجُرْ، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ فَلْيَضْرِبْ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا أَيْضًا يَلْجَأُ إِلَى التَّحْكِيمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَانِتَاتِ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى فِي الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، فَضْلًا عَنِ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ.
وَأَقُولُ: صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِوُجُوبِ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّأْدِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاو لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ وَالْقَرِينَةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذْ لَوْ عُكِسَ كَانَ اسْتِغْنَاءً بِالْأَشَدِّ عَنِ الْأَضْعَفِ، فَلَا يَكُونُ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْتِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَى أَجْزِئَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ، مُرَتَّبَةٍ عَلَى أَمْرٍ مُدْرَجٍ، فَإِنَّمَا النَّصُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَمَعْنَى: لَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، لَا تَطْلُبُوا طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إِلَى إِيذَائِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، فَالْبَغْيُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوهُنَّ بِطَرِيقٍ مَا، فَمَتَى اسْتَقَامَ لَكُمُ الظَّاهِرُ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْ مَطَاوِي السَّرَائِرِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا فَإِنَّ سُلْطَانَهُ عَلَيْكُمْ فَوْقَ سُلْطَانِكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَإِذَا بَغَيْتُمْ عَلَيْهِنَّ عَاقَبَكُمْ، وَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ عَنْ هَفَوَاتِهِنَّ كَرَمًا وَشَمَمًا تَجَاوَزَ عَنْكُمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ: أَتَى بِهَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَبْغِي عَلَى الْمَرْأَةِ بِمَا يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَقْدَرَ، فَذَكَّرَهُ تَعَالَى بِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لِيَتَّعِظَ وَيَخْشَعَ وَيَتَّقِيَ اللهَ فِيهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بِظُلْمِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونُوا سَادَةً فِي بُيُوتِهِمْ إِنَّمَا يَلِدُونَ عَبِيدًا لِغَيْرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ أَوْلَادَهُمْ يَتَرَبَّوْنَ عَلَى ذُلِّ الظُّلْمِ فَيَكُونُونَ كَالْعَبِيدِ الْأَذِلَّاءِ لِمَنْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمَعِيشَةِ مَعَهُمْ.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، الْخِلَافُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِنُشُوزِ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَالنُّشُوزُ يُعَالِجُهُ الرَّجُلُ بِأَقْرَبِ التَّأْدِيبَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا مَرَّ سَرْدُهُ، وَحَلَا وِرْدُهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ الرَّجُلِ، فَإِذَا تَمَادَى هُوَ فِي ظُلْمِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ إِنْزَالِهَا عَنْ نُشُوزِهَا، وَخِيفَ أَنْ يَحُولَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِقَامَتِهِمَا لِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى فِي الزَّوْجِيَّةِ، بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ: السُّكُونُ، وَالْمَوَدَّةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَكَافِلِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ أَنْ يَبْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِهَا، وَيَجِبُ عَلَى هَذَيْنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يُوَجِّهَا إِرَادَتَهُمَا إِلَى إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَتَى صَدَقَتِ الْإِرَادَةُ كَانَ التَّوْفِيقُ الْإِلَهِيُّ رَفِيقَهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ الْخُضُوعُ لِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ وَالْعَمَلُ بِهِ.
فَخَوْفُ الشِّقَاقِ تَوَقُّعُهُ بِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، وَالشِّقَاقُ هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي شِقٍّ أَيْ فِي جَانِبٍ، وَالْحَكَمُ (بِالتَّحْرِيكِ): مَنْ لَهُ حَقُّ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (فِيكَ الْخَصْمُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ).
وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُسِنِّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ لِرَوِيَّتِهِ وَتَجْرِبَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمَا إِرْسَالُهُمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ لِيَنْظُرَا فِي شَكْوَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَيَتَعَرَّفَا مَا يُرْجَى أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْتَرْضُوهُمَا بِالتَّحْكِيمِ، وَإِعْطَائِهِمَا حَقَّ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ، رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي [السنن] وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهَلْهِ، وَرَجُلًا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ تَجْمَعَا، وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا، قَالَتِ الْمَرْأَةُ: رَضِيتُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِمَا عَلَيَّ بِهِ، وَلِي، وَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا الْفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ»، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَفَاسَدَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَرَجُلًا مِثْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، فَيَنْظُرَانِ أَيُّهُمَا الْمُسِيءُ، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَقَسَرُوهُ عَلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسِيئَةَ قَسَرُوهَا عَلَى زَوْجِهَا وَمَنَعُوهَا النَّفَقَةَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرُهُمَا عَلَى أَنْ يُفَرِّقَا أَوْ يَجْمَعَا فَأَمْرُهُمَا جَائِزٌ، فَإِنْ رَأَيَا أَنْ يَجْمَعَا فَرَضِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَرِهَ ذَلِكَ الْآخَرُ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي كَرِهَ، وَلَا يَرِثُ الْكَارِهُ الرَّاضِيَ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلَيْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلْحَكَمَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَالنَّصُّ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، لِيَجْتَهِدَا فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَهَلْ هُمَا قَاضِيَانِ يُنَفَّذُ حُكْمُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، أَمْ وَكِيلَانِ لَيْسَ لَهُمَا إِلَّا مَا وَكَّلَهُمَا الزَّوْجَانِ بِهِ؟ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَاكِمُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يُكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَذَا الْعَمَلِ مِمَّنْ يُمَثِّلُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْحُكَّامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَأَقَارِبُهُمَا، فَإِنْ قَامَ بِهِ الزَّوْجَانِ أَوْ ذَوُو الْقُرْبَى أَوِ الْجِيرَانُ فَذَاكَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَى فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمَا بِذَلِكَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجِيهٌ، فَالْأَوَّلُ يُكَلِّفُ الْحُكَّامَ مُلَاحَظَةَ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ وَالِاجْتِهَادَ فِي إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، وَالثَّانِي يُكَلِّفُ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَاحِظَ بَعْضُهُمْ شِئُونَ بَعْضٍ، وَيُعِينَهُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَظِيفَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَا يَحْكُمَانِ إِلَّا بِمَا وُكِّلَا بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ (وَذَكَرَ مَذْهَبَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاخْتِصَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا آنِفًا)، وَقَوْلُهُ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا}، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَلَّا يَدَّخِرَا وُسْعًا فِي الْإِصْلَاحِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُمَا فَالتَّوْفِيقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِحْكَامِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى لَا يُذَكِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، وَلِيُشْعِرَ النُّفُوسَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا التَّحْكِيمَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَاشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ فِيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنَايَتَنَا بِالدِّينِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَتَعَصُّبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهَا هُمْ أُولَاءِ قَدْ أَهْمَلُوا هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَلِيلَةَ لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَالْبُيُوتُ يَدِبُّ فِيهَا الْفَسَادُ، فَيَفْتِكُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَيَسْرِي مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ.
إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ.
إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَجَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ الذِّكْرَى مِنَ الْحَكَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ إِصْلَاحَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا وَلَا يَنْسَاهَا جَمِيعُ الْأَزْوَاجِ، تِلْكَ الْحِكْمَةُ هِيَ قَوْلُهُ لِلَّتِي صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا لَا تُحِبُّ زَوْجًا: «إِذَا كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ لَا تُحِبُّ أَحَدَنَا فَلَا تُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ أَقَلَّ الْبُيُوتِ مَا بُنِيَ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَعِيشُ (أَوْ قَالَ يَتَعَاشَرُ) النَّاسُ بِالْحَسَبِ وَالْإِسْلَامِ، أَيْ: إِنَّ حَسَبَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا يُحْفَظُ بِحُسْنِ عِشْرَتِهِ لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يَأْمُرُهُمَا بِأَنْ يَتَعَاشَرَا بِالْمَعْرُوفِ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [4: 19].
قَدِ اهْتَدَى الْإِفْرِنْجُ إِلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَبْحَرَ عِلْمُ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عِنْدَهُمْ، فَرَبَّوْا نِسَاءَهُمْ وَرِجَالَهُمْ عَلَى احْتِرَامِ رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَعِيشَا بِالْمَحَبَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْعَدَا بِهَا فَلْيَعِيشَا بِالْحَسَبِ، وَهُوَ تَكْرِيمُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، وَمُرَاعَاتُهُ لِشَرَفِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عُرْفُ أُمَّتِهِمْ، ثُمَّ يَعْذُرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّهُ فَلَا يَذْكُرْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَعَادَةَ الْمَحَبَّةِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَالِصَةِ قَلَّمَا تَمَتَّعَ بِهَا زَوْجَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمْنِيَةَ كُلِّ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا الْمَوَدَّةَ الْعَمَلِيَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ بِإِبَاحَةِ الْمُخَالَطَةِ وَالتَّبَرُّجِ قَدْ أَفْرَطُوا فِي إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، حَتَّى صَارَ الْأَزْوَاجُ يَتَسَامَحُونَ فِي السِّفَاحِ، أَوِ اتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ، وَهَذَانِ يَعْصِمُ مَجْمُوعَ أُمَّتِنَا مِنْهُ الْإِسْلَامُ. اهـ.